سياحة فى عقل الرقابة
——————————-
بعدقرار منع فيلم ( المعجزة ) من العرض فى مهرجان الجونة الأخير ، فقد دفعنى الفضول للاطلاع على قصة الفيلم المأخوذة من المجموعة القصصية ( خمارة القط الأسود ) لأديب نوبل نحيب محفوظ ، محاولا الاجتهاد فى الوقوف على السبب المحتمل لقرار الرقابة بالمنع
خاصة وأن هذا القرار بالمنع قد سبقه ، بأشهر قليلة ، قرارٌ آخر بمنع فيلم الملحد ، علما بأن كلا الفيلمين كان قد سبق إجازتهما بمعرفة الرقابة ، ولكن يبدو أن المؤسسة الدينية ، وكالمعتاد ، لابد أن تكون لها الكلمة الأخيرة بقرار فرض الوصاية على عقول المصريين بالمنع او بالمنح ، وذلك فى مشهد يثير الكثير من الأسي على أحوالنا ، ونحن نعيش فى عصر ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعى ، حيث تكون مصطلحات مثل الرقابة والمنع وفرض الوصاية ليست بذات معنى بعدما تجاوزتها الأحداث ، وشيعتها الى مثواها الأخير ، ولكننا لازلنا نحتفى بها حتى الآن ، بعدما أصبحنا خارج الزمن
والآن إلى قصة ( المعجزة ) :
القصة تحكى باختصار ، عن رجل ، محدود الثقافة والمعرفة ، اعتاد على أن يقضى وقت فراغه دائما فى إحدى الحانات ، وذات مرة ، ومنعا للملل، قرر أن يشغل نفسه بلعبة ، من طرف واحد ، مع الساقى ، إذ عنّ له أن يسأله عن شخص وهمى اختار له اسما ثلاثياً عجيبا نادر التكرار ، فرد الساقى بعدم معرفته ، ولكن المفاجأة ، أنه ، وبعد لحظات من حواره مع الساقى ، سمع صاحب الحانة وهو يمسك بسماعة التليفون مناديا على اسم هذا الشخص الوهمى ، لأن أحداً يطلبه على التليفون ، وبالطبع لم يحب أحد
فأصاب الرجل ذهول من فرط المفاجأة ، هل تكون مصادفة ؟ وبالطبع احتمال المصادفة هنا بعيد تماما عن المنطق ، فبدأ يتأمل فى ذاته ، ويقول ربما انه يتمتع بموهبة خارقة ، فقرر أن يعيد التجربة مرة أخرى ، مع البحث عن شخص أخر اختار له اسما أعجب وأغرب ، وغير متداول ، ومثل المرة السابقة أفاد الساقى انه لايعرفه ولم يسمع به من قبل ، وهنا تأتى المفاجأة فقد جاءه الساقى بعد لحظات ، يطلب منه ان يتوجه الى التليفون لأن الشخص الذي كان يسأل عنه يطلبه على التليفون ، فكاد ان يتشاجر مع الساقى غير مصدق ، وسأله كيف يعرف الطالب انه موجود هنا فرد الساقى انه عندما طلب الحانة سأل صاحبها إن كان هناك من الحضور من يسأل عنه ، فجاءه الساقى يطلب منه التحدث اليه لانه يعرف انه كان يسأل عنه منذ لحظات ، فقام متثاقلا الى التليفون وانهى المكالمة بسرعة ، وعاد الى مقعده وهو على حال من الصدمة والذهول محاولا ان يفهم ماحدث ، وغادر مقعده سريعا وهو على قناعة ان ماحدث لا يمكن ان يكون مصادفة ، وانها معجزة وان التفسير الوحيد هو انه يتمتع بقوة خارقة للطبيعة يعرف بها الغيب ، ويتنبأ بحدوث الوقائع قبل وقوعها ، وبدأ يقنع نفسه بذلك ، وهو على حال من الزهو ، وهنا قرر ان يغير حياته تماما تبعا لهذا التحليل ، وهو انه ( فيه شيء لله ) ، كما افاد شيخ الجامع بعدما استمع الى حكايته ، واعطاه كتبا تراثية دينية يقرأها كى يعد نفسه ليكون من اولياء الله اصحاب المعجزات والكرامات
ولكنه فى ذات الوقت ، قرر أن يجرب موهبته مرات ومرات بعد ذلك ولكنها كلها باءت بالفشل فأخذ يزداد توترا واحباطا لأن ذلك سوف يفسد مشروعه ، وبعدما مر على حانات كثيرة ، كان يتعمد ألا تكون حانته الاولى من بينها ، فشل فيها كلها قرر ان يعود الى حانته الاولى مرة اخرى ، واخذ مكانه المعتاد ، فإذا بأحد السكارى على الطاولة القريبة منه يتودد اليه ويقترب منه ويحاول التحدث اليه ، وكان حديثا عرف من خلاله ان هؤلاء السكارى كانوا يسمعونه وهو يتحدث الى الساقى فقرروا أن يمارسوا عليه هذه اللعبة ، عن طريق تليفون الحانة ، وان القصة كلها لم تكن الا لهوا تلاعب به السكارى من خلاله ، فغضب غضبا شديدا وامسك بتلابيب هذا السكران الذي أجهض حلمه ، وكاد ان يفتك به لولا ان كان هذا السكران أسرع منه ، واستطاع أن يقضى عليه ، وبعدها سقط مضرجاً فى دمائه
انتهت القصة
يبدو أن اديب نوبل اراد ان ينبه جمهوره الى أكذوبة الخرافات والكرامات المنسوبة إلى الذين أطلق عليهم العامة أنهم أولياء الله ، والتى أصبحت شائعة فى رؤوس ومعتقدات الناس ، وأنه ليس هناك خوارق ، وان لكل حدث وقع ، سببا منطقيا وماديا وراء حدوثه ، مهما بدا غريبا ومذهلاً ويستعصى وقتها على التفسير العقلى ، ويبدو كذلك ، أنه يريد أن يحذرهم من الدجالين المتمسحين فى الدين الزاعمين انهم اصحاب كرامات وقدرات خارقة ، تهتز تحتها نواميس الكون وقوانين الطبيعة
وبالطبع يستطيع اى قاريء آخر أن يخلص إلى مفهوم آخر
وبعد
فهذا مافهمته ، وأظن أن صناع الفيلم ، كذلك ، قد أبرزوا هذا المعنى ، وهو معنى يصب فى الهدف من تنوير العقول ، والحث على إعمال العقول ، بدلا من السقوط فى عوالم الخرافة والشعوذة وتغييب العقول التى لابد أن تنتهى بكارثة
ويبقي السؤال
ماهو بالضبط الذي أثار حفيظة الرقيب ، ودفعه إلى قرار منع الفيلم ؟
لست أدرى
/منقول عن الاستاذ
مدحت زايد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق